الفرق بين العقد والاتفاقية
قرأت في إحدى المرات قصةً من الأدب القديم، عن رهان بين رجلين من الطبقة النبيلة، زملاء في أحد النوادي الفكرية التجارية النادرة، أحدهما حوت من حيتان التجارة والتمويل، والآخر شاب من عائلة مثقفة عريقة، وكان الأول كبير السّن، رزين الفعل، ذو أخلاق أرسطقراطية رفيعة المستوى، قليل الكلام جُمَلُهُ قصيرة، لم يرفع صوته مرةً في حياته، أما الآخر فقد كان شابًّا مفعمًا بالحيوية، كثير الكلام والنقاش، يحب الجدال في كل صغيرة وكبيرة، وما إن يبدأ مناظرةً مع أحد زملائه حتى تأخذه العاطفة لرفع صوته والاستمرار بالكلام دون انقطاع حتى يستسلم الطرف الآخر، الأمر الذي جعل الرجل الأول لا يطيق ذلك الشاب.
وفي أحد الأيام اقترح الشيخ على الشاب رهانًا يقتضي بأن يعطيه التّاجر الشيخ ثروته كاملةً مقابل سنة كاملة من الصمت لا يتكلم فيها هذا الشاب كلمةً واحدةً طوال الثلاثمائة وخمس وستين يومًا القادمة. شعر الشاب بالإهانة في بادئ الأمر، لكنه سرعان ما وافق على الرهان لحاجته الماسة للمال، فقد كانت عائلته الكريمة على وشك الإفلاس، الأمر الذي لم يعلم به أحد سوى الشيخ، وقبل بدء الرهان وضح النبلاء قوانين اللعبة الظالمة بحذافيرها، فقد كان على الشاب البقاء حبيسًا في غرفة زجاجية في نادي النبلاء كي يتيح لهم الفرصة لمشاهدة الشاب يوميًّا والتأكد من أنه لن ينطق أي كلمة مهما ضاقت عليه الظروف.
وبعد مرور القليل من الوقت، تفاجأ الجميع من قدرة الشاب على البقاء صامتًا لأكثر من شهر، أمر كان يعده الجميع مستحيلًا، ومن بين هؤلاء المتفاجئين كان الشيخ الذي لم يعجبه الأمر حتى بدأ بمضايقته في كل فرصة سنحت له الاختلاء بذلك الشّاب دون وجود أحد آخر، فقد كان ينقل له الأخبار الكاذبة والإشاعات عن أهله وزوجته وأحبائه، ويضيق عليه المعيشة يومًا تلو الآخر، يعرض عليه مبلغًا بسيطًا مقابل الاستسلام والذهاب لإصلاح ما تبقّى من حياته المنهارة، حتى غدا ذلك الشاب على شفا الانهيار في أكثر من مناسبة، ومضت الأيام حتى انقضت سنة كاملة، والشاب لم ينطق بنصف كلمة، وجاء موعد اللقاء النهائي بين المتراهنيْن العنيدين.
وبعدما دقت الساعة معلنةً انقضاء السنة كاملةً، خرج الشاب يده ممدودةً للأمام وعلى وجهه ابتسامة الانتصار، ينتظر جني ما صبر لنيْله ليتفاجئ أن الشيخ لا يملك أي فلس!!، فقد أعلن إفلاسه في منتصف السنة، لذلك كان يعرض عليه تلك المبالغ الصغيرة، وعندما انتظر الجميع بصمت الشاب أن يتكلم أن يقول أي شيء، أن يطالب بحقه أي كلمة.
بقي الشاب صامتًا لا يتكلم، فعندما حاولوا إجباره على الكلام لم يستطع، وإنما أمسك بورقة وكتب عليها “لأنني لم أكن متأكدًا من استطاعتي الصمت عن الكلام لسنة كاملة قمت ليلة الرهان بقطع أحبالي الصوتية من جذورها، وعولت العوض على الثروة التي ظننت أني سأجنيها”.
وبعد انقضاء هذه العلاقة المشينة بين النبيلين اللذيْن آثر كلاهما الغش لتحقيق الفوز، خسر الشيخ أمواله وسمعته وأصدقائه وزملائه، أما الشاب فقد خسر الكثير أيضًا مما لا يمكن تعويضه بسهولة مع مرور الأيام، ولكن ما الذي جعل نهاية هذه القصة بتلك الدرجة من التراجيدية؟، أين بدأ الخطأ؟، من أين أتى التقصير ومن من؟. أنا شخصيًّا أعتقد أن اللّوم واقع على الاثنين معًا.
فالمثير للانتباه في هذه الحكاية هو افتقار الاتفاق بين هذين الرجلين على الشرعية، فلم يدوّن هذان الرجلان اتفاقهما رسميًّا، لا بعقد ولا باتفاقية، لم يعرف أي منهما بنود هذا الاتفاق ولا عقوبة خرقه، فما كان يا ترى من الممكن أن يحصل لهذين الرجلين لو أنهما تعاقدا بعقد أو اتفاقية بدلًا من التسرع بالبت بالموضوع بكلمة شرف، فتعالوا إذًا معنا نتعرف على نوعين مهمين من أنواع الاتفاق الرسمي بين الأشخاص، وهما العقد والاتفاقية، ما هما وأين يكمن الفرق بينهما؟.
الفرق بين العقد والاتفاقية
ويمكن تعريفه على أنّه اتفاق بين طرفين أو أكثر، يتعهدون فيه بالقيام بمجموعة من الوعود والعوائد المتبادلة بين أطراف العقد، وتحت رعاية وسلطة القانون الذي يقدم بدوره ما يسمّى بالتدابير القضائية، وفي حال الاخلال بأي بند من بنود العقد، ويندرج القانون الخاص بالعقود ضمن القانون المدني والقانون العام للالتزامات.
ومن شروط العقد أن تكون مكتوبةً خطًّا إلا في حالات التعامل اليومية كالتسوّق وشراء الحاجيات المعتادة، إذ يستعاض عن العقد بالفواتير أو التبادل الشفهي.
وتعد العبارة اللاتينية القديمةالتي تعني أن العقد شريعة المتعاقدين من أقدم النّصوص القانونية التي توضح وباختصار تعريف العقد وأهميّته، فتلمح هذه العبارة أن كل ما يستلزم هذه العلاقة المؤقتة بين المتعاقدين موجود في ثنايا هذا العقد الذي يمثل دستورًا مصغرًا بين أطراف العقد.
وتعني الاتفاقية تفاهم واتفاق بين طرفين أو أكثر لتحقيق أهداف اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية أو تجارية، أو تسوية نزاع بين طرفين، ويعد قابلًا للتفاوض وخاضعًا للإنفاذ القانوني، وغالبًا ما يؤدي هذا التفاهم إلى ولادة عقد يلزم أطراف الاتفاق ببنود هذه الاتفاقية، ومتطلّبات إخلال أي بند من هذه البنود، وعادةً ما يوضح الحد الأدنى من المعايير المقبولة للآداء بين الأطراف المتعاقدة.
أطراف العقد
عند وقوع أي عقد بين الأطراف يجب أن يكون العقد قابلاً للتنفيذ، ولتنفيذ العقد يجب أن تكون الأطراف عاقلة، وأن يكون قادراً على تنفيذ الشروط الموجودة داخل العقد، والأطراف الموجودين في العقد هما:
– الدائن
ويتمثل في طرف أو أكثر في مركبة العقد، ويعد الطرف المكتسب للحق أو المنفعة.
– المدين
ويتمثل أيضًا في طرف أو أكثر، وهو الطرف المتحمل للالتزام.
أركان العقد
فيما يلي سنبين أركان العقد:
التراضي: وهو الخطوة الأولى المحددة لاستكمال العقد أو التراجع عنه، وتتمثل بالإيجاب والقبول بين الأطراف المتعاقدة، وللإيجاب والقبول شروط محددة، منها:
– وضوح دلالة كل من الإيجاب والقبول وضوحًا تامًا غير قابل للُبْس.
– التوافق بين كل من الإيجاب والقبول بالاتحاد في الموضوع.
– الاتصال بين الإيجاب والقبول زمانًا وموضعًا.
المحل: ويتكون من جزأين أحدهما خاص بالدائن والآخر بالمدين، وهما كالتالي:
– محل العقد: وهي العملية التي تم التراضي على تحقيقها، وتعد مسؤولية الدائن.
– محل الالتزام: وهي مسؤولية المدين، وما يترتب عليه من التزام تجاه العقد.
السبب: ويمثل السبب الداعي للتعاقد.
الغرض القانوني: على الغرض القانوني أن يندرج في حدود السلوك القانوني؛ إذ أن المحكمة لا تطبق عقداً لا يتعلق بشيء غير قانوني.
أنواع العقد
توجد العديد من أنواع العقود تتمثل فيما يلي:
– عقد ملزم للطرفين.
– عقد ضمني.
– عقد طارئ.
– عقد تنفيذي.
– عقد صحيح.
– عقد باطل.
– عقد قابل للإبطال.
– عقد يكون من جانب واحد.
– عقد منجز.
أنواع الأتفاقيات
من أنواع الاتفاقيات ما يلي:
– اتفاق ضمني.
– اتفاق صريح.
– اتفاق باطل.
– اتفاق شرطيّ.
– اتفاق غير قانوني.
– اتفاق الرهان.
ميزات الاتفاقية
من مميزات الاتفاقية ما يلي:
– ذات صفة تعاقدية، أي الغرض منها إنشاء علاقة قانونيّة بين الأطراف المتعاقدة، إذ تعبر الاتفاقية عن التقاء إيرادات موقعيها على أمر معين مشترك، ومن الجدير بالذّكر أنّه يجب الانتباه كي لا يخلط بينها وبين أي من المذكرة أو الاقتراح أو الكتاب الشفوي أو المحضر أو التسوية المؤقتة أو تبادل المذكرات.
– من أهم مميزات الاتفاقية وشروطها أنها مكتوبة، ولا تقبل التعامل الشفوي أو تحمل له أي قيمة، وبذلك لا يعترف بما يسمى وعد الشرف في هذه الاتفاقات.
– تتنوع هيئة الأطراف المكونة للاتفاقية، فقد يأخذ الأطراف صيغة الأشخاص أو المؤسسات أو الشركات، وحتى الدول والحكومات.
– تخضع الاتفاقيات لسلطة القانون، وتلزم الأطراف المتفقة بما ينص عليه هذا القانون من متطلبات، وما يترتب عليهم من إجراءات في حال الإخلال في البنود أو التراجع عنها.
شروط انعقاد الاتفاقية
يكمن الفرق بين العقد والإتفاقية بخاصية الشمول لكل منهما، إذ يعد الاتفاق بمعناه القانوني مرادفًا للعقد ولكنه أعم منه؛ لأن الاتفاق يشمل كل عقد سواءً أكان مسمىً أم غير مسمى.
أما العقد فهو أخص من الاتفاق، ويعني توافق إرادتين على التزام أو نقله ويمكن اعتبار كل عقد اتفاقية، وليست بالضرورة كل اتفاقية عقدًا.. وفيما يلي سنبين الشروط الواجب توافرها في الاتفاقية:
– الرضا بين الأطراف المتعاقدة المثبتة أهليتهم للتعاقد.
– عدم تعدي البنود المرسومة لسلطة أي طرف من الأطراف المتعاقدة، أو التَّجاوز لقدراتهم الموضحة مسبقًا.
– عدم تجاوز أي بند من بنود الاتفاقية لسلطة القانون، والحرص على عدم خرق أي قاعدة دولية متعارف عليها.
التطور التاريخي للاتفاقيات والعقود
لقد ظهر قانون العقود والإتفاقيات منذ نشوء التجارة في الحضارات، إذ أنها لم تظهر إلا في المجتمعات التجاريّة الكبيرة، وقد كانت المجتمعات البدائيّة لها طرق أخرى للإتفاقيات والعقود، إذ استخدم الناس طرق أخرى مثل المقايضة، وكان لهم عدّة طرق لفرض الإلتزامات مثل سلطة الدين، وتكون معضم المعاملات من دين ومقايضة قابلة للتنفيذ من كلا الطرفين، وقد ظهرت مشاكلة عدّة من خلال عملية المقايضة، إلا أنه حلت تلك المشاكل من خلال اللجوء إلى قانون الملكيّة وفرض عقوبات على من يؤدي إلى فساد في الأتفاقية.
وقد كانت المجتمعات قديماً في حال الديّن تقدم الرهائن حتى يسد الديّن، ومنها تعهد الأراضي أو تقديم رهينة مثل العبوديّة، أو تقديم الثروة الحيونيّة كرهائن للمدين، وفي حالات مختلفة كانت تقدم خدمة للمدين مثل بناء كوخ، أو زراعة حقل وترتيبه أو حتى بناء قارب، وكانت عمليّة المطالبة بالسداد من الدائن لم تستند على وعد أو صفقة أو عقد بل باحتجاز أو إرهان شخص أو أموال شخص آخر أو حتى احتجاز سلع لطرف ثالث.
وعملية وجود قانون حقيقي للعقود وقابل للتنفيذ يتطلب تطورً كبيراً للسوق والاقصاد في تلك الأزمان، وقد كان ظهور قانون للعقود والاتفاقيات جزءاً من النهضة السياسيّة والاقتصاديّة والفكرية وذلك في أوروبا الغربية، إذ أنه ظهر في أحياء أقنصادية وتجارية كبيرة، وأدى إلى صعود سلطة وطنية.
وقد كان ظهور ذلك القانون مهماً للمجتمعات الموجودة في إنجلترا وكافة القارة الأوروبية، ومع تطور القانون وتطور الحياة التجارية الاقتصادية في تلك المجتمعات نجح القانون ووجدت مبادئ للعقود.