خرسانة (حيّة) تُصلح ذاتها.. فتحٌ علمي مستوحى من جلد البشر
نجح فريق بحثي أميركي في إنتاج خرسانة “حية” يمكنها إصلاح شقوقها ذاتياً باستخدام تقنية بيولوجية مستوحاه من الجسم البشري.
وأدخل الفريق البحثي -وهو من كلية الهندسة بجامعة دريكسيل- لمسة جديدة على ممارسة قديمة كان يستخدمها البناؤون الأوائل لتحقيق هذا المفهوم الجديد لـ”الخرسانة الحية” التي تستخدم بكتيريا تندفع إلى موقع الشقوق لإصلاح الضرر.
معاجلة الخرسانة
وقديماً كان عمال البناء الأوائل يخلطون نوعاً من الألياف -وهو “شعر الخيل”- في الطين، بما يساعد على تقوية خليط البناء. ولكن الطريقة الجديدة للبناء تأخذ هذه الآلية القديمة إلى المستوى التالي عبر تحويل الألياف إلى نظام أنسجة حية تدفع بكتيريا معالجة للخرسانة إلى موقع الشقوق لإصلاح الضرر، واُبلغ عن هذه التقنية في دورية “كونستركشن آند بيلدنغ ماتريالز”.
وأطلق الباحثون على الألياف المحملة بالبكتيريا اسم “بايوفايبر”، وقدموا في الدراسة وصفاً تفصيلياً لهذا النظام، مشيرين إلى أنه عبارة عن ألياف بوليمر مغطاة بهيدروجيل محمل بالبكتيريا وقشرة واقية تستجيب للأضرار، حيث تعمل شبكة الألياف الحيوية المدمجة داخل الخرسانة على تحسين متانتها، وتمنع الشقوق من النمو، وتمكّن من إصلاحها ذاتياً.
والبكتريا الصانعة للحجارة هي كائنات حية طبيعية تشارك في العديد من العمليات الطبيعية التي تساهم في تكوين الحجارة أو الرواسب المعدنية، ومنها:
ثيوباكيلوس فيروكسيدانس: وتعمل هذه البكتيريا على أكسدة مركبات الحديد والكبريت، مما يؤدي إلى تكوين معادن مثل أكاسيد الحديد والكبريتات، والتي يمكن أن تساهم في تكوين أنواع معينة من الحجارة.
ليبتوثركس ديسكوفورا: وتُنتج هذه البكتيريا أغلفة خيطية رفيعة يمكن أن تصبح مغطاة بأكاسيد الحديد أو المنغنيز، مما يساهم في تكوين الرواسب المعدنية.
البكتيريا الزرقاء: فبعض أنواع البكتيريا الزرقاء معروفة بمشاركتها في تكوين “الستروماتوليت”، وهي عبارة عن هياكل ذات طبقات تتشكل عن طريق محاصرة وربط الحبوب الرسوبية بواسطة الحصائر الميكروبية.
ليسينيباسيلوس كرويكوس: وهي بكتيريا معروفة بدورها في تكوين المعادن، وخاصة كربونات الكالسيوم.
البكتريا المنتجة لكربونات الكالسيوم
عمل الفريق البحثي مع البكتيريا “ليسينيباسيلوس كرويكوس”، حيث تتمتع هذه البكتيريا المعمرة التي توجد عادة في التربة، بالقدرة على دفع عملية بيولوجية تسمى ترسيب كربونات الكالسيوم لإنشاء مادة تشبه الحجر يمكنها الاستقرار والتصلب في رقعة للشقوق المكشوفة في الخرسانة.
ووجد الباحثون أنه عندما تُحفّز هذه البكتيريا لتكوين “بوغ” داخلي، يمكنها أن تنجو من الظروف القاسية داخل الخرسانة، وتبقى في حالة سبات حتى تُستدعى للعمل.
وتكوين الأبواغ الداخلية المعروفة أيضا باسم “التبوغ”، هو إستراتيجية البقاء التي تستخدمها بعض البكتيريا، وهي عملية معقدة تحدث عندما تصبح الظروف غير مواتية لنمو البكتيريا وتكاثرها، وتتضمن الخطوات المتبعة في تكوين البوغ الداخلي عادة ما يلي:
البداية: عندما تصبح الظروف البيئية غير مواتية (مثل استنفاد المغذيات أو الضغوط الأخرى)، تبدأ الخلية البكتيرية عملية التبوغ، حيث يتكثف الحمض النووي داخل الخلية البكتيرية ويصبح أكثر مقاومة للضرر.
تكوين الحاجز: تخضع الخلية البكتيرية لانقسام غير متماثل للخلايا، مما يؤدي إلى إنشاء حجرة أصغر تعرف باسم البوغ الأمامي داخل الخلية الأصلية.
تطور الخلية الأم والأبواغ الأمامية: تبتلع الخلية الأم الأبواغ الأمامية وتشكل غشاء مزدوجا حولها، وتوفر الخلية الأم العناصر الغذائية والحماية للجراثيم النامية.
تكوين القشرة والمعطف: يطور البوغ الأمامي طبقة قشرة توفر مقاومة للضغوط البيئية، ويتم تصنيع طبقة بروتينية حول القشرة.
النضج والانطلاق: يتشكل البوغ الداخلي الناضج داخل الخلية الأم، وفي نهاية المطاف تتفكك الخلية الأم، وتطلَق الأبواغ الداخلية في البيئة، ويظل البوغ الداخلي خاملا حتى تصبح الظروف مواتية مرة أخرى، مما يسمح له بالإنبات واستئناف النمو البكتيري الطبيعي.
وتتميز الأبواغ الداخلية بالمرونة بشكل لا يصدق، ويمكنها تحمل الظروف القاسية بما في ذلك الحرارة والجفاف والمواد الكيميائية والإشعاع، مما يجعلها آلية بقاء فعالة للغاية لبعض أنواع البكتيريا. وتُعرف بكتريا “ليسينيباسيلوس كرويكوس” التي استخدمها الباحثون بقدرتها الفائقة على تكوين الأبواغ الداخلية، مما يضمن استمرارها وإعادة تنشيطها المحتمل عندما تصبح البيئة أكثر ملاءمة للنمو والتكاثر.
كيف يعمل “بايوفايبر”؟
وإذا كانت البكتيريا هي العامل الأساسي في نظام “بايوفايبر”، فإن ما يميز هذا العمل عن محاولات سابقة لتوظيف البكتيريا هو اختيار المزيج الصحيح من البكتيريا والهيدروجيل وطلاء البوليمر
ويرى محمد هوشماند طالب الدكتوراه في مختبر فارنام الذي شارك في الدراسة أن “لتجميع بايوفايبر”، يجب البدء بنواة من ألياف البوليمر قادرة على تثبيت ودعم الهياكل الخرسانية، ثم تغليف الألياف بطبقة من هيدروجيل محمل بالأبواغ الداخلية من البكتيريا، وتغليف المجموعة بأكملها بقشرة بوليمر تستجيب للتلف مثل أنسجة الجلد، ويبلغ سمك التجميع بأكمله ما يزيد قليلاً عن نصف مليمتر”.
ويشرح هوشماند آلية عمل النظام بأنه “يوضع بايوفايبر في شبكة بجميع أنحاء الخرسانة أثناء صبها، ويعمل كعامل دعم معزز، لكن قدراته الحقيقية لا يتم الكشف عنها إلا عندما يخترق الصدع الخرسانة بدرجة كافية لاختراق الغلاف الخارجي لبوليمر للألياف”.
ويضيف أنه “على الرغم من أن هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به في دراسة حركية الإصلاح الذاتي، فإن النتائج التي توصلنا إليها تشير إلى أن هذه طريقة قابلة للتطبيق لإصلاح الشقوق دون تدخل خارجي، وهذا يعني أنه يمكن إنشاء بنية تحتية خرسانية حية وإطالة عمرها، مما يمنع الحاجة إلى إصلاحات أو استبدالات مكلفة”.